فصل: تفسير الآيات (30-33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (27):

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} لَمَّا اطْمَأَنَّتْ مَرْيَمُ بِسَبَبِ مَا رَأَتْ مِنَ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا آنِفًا أَتَتْ بِهِ أَيْ بِعِيسَى قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ غَيْرَ مُحْتَشِمَةٍ وَلَا مُكْتَرِثَةٍ بِمَا يَقُولُونَ، فَقَالُوا لَهَا: {يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [19/ 27]، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: {فَرِيًّا}، أَيْ: عَظِيمًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: {فَرِيًّا} أَيْ: مُخْتَلَقًا مُفْتَعَلًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: {فَرِيًّا} أَيْ: عَجِيبًا نَادِرًا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، أَيْ: مُنْكَرًا عَظِيمًا؛ لِأَنَّ الْفَرِيَّ فَعِيلٌ مِنَ الْفِرْيَةِ، يَعْنُونَ بِهِ الزِّنَى؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَى كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى الْمُخْتَلَقِ؛ لِأَنَّ الزَّانِيَةَ تَدَّعِي إِلْحَاقَهُ بِمَنْ لَيْسَ أَبَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: {فَرِيًّا} الزِّنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [4/ 156]، لِأَنَّ ذَلِكَ الْبُهْتَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهَا زَنَتْ، وَجَاءَتْ بِعِيسَى مِنْ ذَلِكَ الزِّنَى حَاشَاهَا وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} وَالْبَغِيُّ الزَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، يَعْنُونَ كَانَ أَبَوَاكِ عَفِيفَيْنِ لَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ، فَمَا لَكِ أَنْتِ تَرْتَكِبِينَهَا! وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزِّنَى كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [60/ 12]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} أَيْ: وَلَا يَأْتِينَ بِوَلَدِ زِنًى يَقْصِدْنَ إِلْحَاقَهُ بِرَجُلٍ لَيْسَ أَبَاهُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكُلُّ عَمَلٍ أَجَادَهُ عَامِلُهُ فَقَدْ فَرَاهُ لُغَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ وَهُوَ زُرَارَةُ بْنُ صَعْبِ بْنِ دَهْرٍ:
وَقَدْ أَطْعَمْتِنِي دَقْلًا حَوْلِيَّا ** مُسَوَّسًا مُدَوَّدًا حَجَرِيَّا

قَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الْفَرِيَّا يَعْنِي: تَعْمَلِينَ بِهِ الْعَمَلَ الْعَظِيمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقْصِدُ أَنَّهَا تُؤَكِّلُهُ أَكْلًا لَمًّا عَظِيمًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَا أُخْتَ هَارُونَ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَارُونَ بْنَ عِمْرَانَ أَخَا مُوسَى، كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ آخَرُ صَالِحٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَمَّى هَارُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هَارُونَ أَخَا مُوسَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنْزِيُّ- وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ: يَا أُخْتَ هَارُونَ، وَمُوسَى قَبْلُ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» اهـ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَارُونَ أَخَا مُوسَى قَبْلَ مَرْيَمَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافْ فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّمَا عَنَوْا هَارُونَ النَّبِيَّ، مَا نَصُّهُ: لَمْ أَجِدْهُ هَكَذَا إِلَّا عِنْدَ الثَّعْلَبِيِّ بِغَيْرِ سَنَدٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ فَقَالُوا لِي: أَرَأَيْتُمْ شَيْئًا تَقْرَءُونَهُ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ السِّنِينَ، فَلَمْ أَدْرِ مَا أُجِيبُهُمْ. فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَّا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ: نُبِّئْتُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى يَا أُخْتَ هَارُونَ، لَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: كَذَبْتَ. فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَهُوَ أَعْلَمُ، وَإِلَّا فَإِنِّي أَجِدُ بَيْنَهُمَا سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ.
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ}: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَأَيْتَ إِخْرَاجَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ بِلَفْظِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ هَارُونُ أَخُو مُوسَى، بَاطِلٌ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا أُخْتُهُ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ أَنَّهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: يَا أَخَا تَمِيمٍ، وَالْمُرَادُ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ تَمِيمٍ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [46/ 21]؛ لِأَنَّ هُودًا إِنَّمَا قِيلَ لَهُ أَخُو عَادٍ لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَهُوَ أَخُو بَنِي عَادٍ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِعَادٍ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْقَبِيلَةُ لَا الْجِدُّ، وَإِذَا حَقَّقْتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَارُونَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ: إِنَّ لَهَا أَخًا اسْمُهُ هَارُونَ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ هَارُونَ الْمَذْكُورَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا مَشْهُورٌ بِالصَّلَاحِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا أُخْتَهُ أَنَّهَا تُشْبِهُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَخِ عَلَى النَّظِيرِ الْمُشَابِهِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} الْآيَةَ [43/ 48]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} الْآيَةَ [7/ 27]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [7/ 202]، وَمِنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ:
وَكُلُّ أَخٍ يُفَارِقُهُ أَخُوهُ ** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ

فَجَعَلَ الْفَرْقَدَيْنِ أَخَوَيْنِ.
وَكَثِيرًا مَا تُطْلِقُ الْعَرَبُ اسْمَ الْأَخِ عَلَى الصَّدِيقِ وَالصَّاحِبِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الصَّاحِبِ قَوْلُ الْقُلَاخِ بْنِ حَزْنٍ:
أَخَا الْحَرْبِ لَبَّاسًا إِلَيْهَا جِلَالَهَا ** وَلَيْسَ بِوَلَّاجِ الْخَوَالِفِ أَعْقَلَا

فَقَوْلُهُ: أَخَا الْحَرْبِ يَعْنِي صَاحِبَهَا.
وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي، وَقِيلَ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ:
عَشِيَّةَ سُعْدَى لَوْ تَرَاءَتْ لِرَاهِبٍ ** بِدَوْمَةٍ تَجْرٌ دُونَهُ وَحَجِيجُ

قَلَى دِينَهُ وَاهْتَاجَ لِلشَّوْقِ إِنَّهَا ** عَلَى النَّأْيِ إِخْوَانُ الْعَزَاءِ هَيُوجُ

فَقَوْلُهُ إِخْوَانُ الْعَزَاءِ يَعْنِي أَصْحَابَ الصَّبْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}.
مَعْنَى إِشَارَتِهَا إِلَيْهِ: أَنَّهُمْ يُكَلِّمُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُهَا بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [19/ 29]، فَالْفِعْلُ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ: {كَانَ} بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَرِنِ بِالْحَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآيات (30-33):

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَوَّلَ كَلِمَةٍ نَطَقَ لَهُمْ بِهَا عِيسَى وَهُوَ صَبِيٌّ فِي مَهْدِهِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ زَجْرٍ لِلنَّصَارَى عَنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ اللَّهُ أَوِ ابْنُهُ أَوْ إِلَهٌ مَعَهُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا عِيسَى فِي أَوَّلِ خِطَابِهِ لَهُمْ ذَكَرَهَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [5/ 72]، وَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [3/ 51]، وَقَوْلِهِ فِي الزُّخْرُفِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [43/ 62- 64]، وَقَوْلِهِ هُنَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [19/ 39]، وَقَوْلِهِ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، التَّحْقِيقُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَمَّا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ، وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [16/ 1]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [39/ 68- 71]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [39/ 73].
فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ، وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَاضِيَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} إِلَخْ، بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نُبِّئَ وَأُوتِيَ الْكِتَابَ فِي حَالِ صِبَاهُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا، أَيْ: كَثِيرَ الْبَرَكَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْخَيْرَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّاعًا حَيْثُ كُنْتُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْكَافِي الشَّافِي: أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا وَأَتَمَّ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ، وَعَنْهُ شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. اهـ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي قَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا، وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَفِيهِ بُعْدٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ أَوْصَانِي وَمُتَعَلِّقِهَا، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي، وَلَمَّا قَالَ بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَقُلْ بِوَالِدَيَّ عُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ قَدَّمَنَا مَعْنَى الْجَبَّارِ وَالشَّقِيِّ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {شَقِيًّا} أَيْ: خَائِبًا مِنَ الْخَيْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاقًّا، وَقِيلَ عَاصِيًا لِرَبِّهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَجْعَلْنِي تَارِكًا لِأَمْرِهِ فَأَشْقَى كَمَا شَقِيَ إِبْلِيسُ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.
تَنْبِيهٌ:
احْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا أَشَدَّهَا عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ! أَخْبَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قُضِيَ مِنْ أَمْرِهِ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (34):

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ فِيهِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ: قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {قَوْلُ الْحَقِّ} [19/ 34] بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ قَوْلَ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ} رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَوْلُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ} مُبْتَدَأٌ، وَ{عِيسَى} خَبَرُهُ، وَ: {ابْنُ مَرْيَمَ} نَعْتٌ لِ: {عِيسَى} وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
وَقَوْلُهُ: {قَوْلَ الْحَقِّ} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَالثَّانِي كَابْنِي أَنْتَ حَقًّا صِرْفَا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ فَ {قَوْلُ الْحَقِّ} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ- أَيْ: هُوَ- أَيْ: نِسْبَتُهُ إِلَى أُمِّهِ فَقَطْ قَوْلُ الْحَقِّ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ: {الْحَقِّ} فِي قَوْلِهِ هُنَا: {قَوْلَ الْحَقِّ} فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ ضِدُّ الْبَاطِلِ بِمَعْنَى الصِّدْقِ وَالثُّبُوتِ، كَقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِعْرَابُ قَوْلِهِ: {قَوْلَ الْحَقِّ} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [3/ 60].
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ: {الْحَقَّ} كَقَوْلِهِ: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [24/ 25]، وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} الْآيَةَ [22/ 62]، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِعْرَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوْلَ الْحَقِّ} [19/ 34] عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ عِيسَى أَوْ خَبَرٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَ {قَوْلَ الْحَقِّ}، هُوَ: {عِيسَى} كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ كَلِمَةً فِي قَوْلِهِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [4/ 171]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} الْآيَةَ [3/ 45]، وَإِنَّمَا سُمِّيَ: {عِيسَى} كَلِمَةً لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ بِكَلِمَتِهِ الَّتِي هِيَ كُنْ فَكَانَ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [3/ 59]، وَالْقَوْلُ وَالْكَلِمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أَيْ: يَشُكُّونَ، فَالِامْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، وَهَذَا الشَّكُّ الَّذِي وَقَعَ لِلْكُفَّارِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [3/ 59- 60]، وَهَذَا الْقَوْلُ الْحَقُّ الَّذِي أَوْضَحَ اللَّهُ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ حَاجَّهُ فِي شَأْنِ عِيسَى إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَا قَصَّ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرِ عِيسَى هُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} الْآيَةَ [3/ 61- 62]، وَلَمَّا نَزَلَتْ وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ خَافُوا الْهَلَاكَ وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ.

.تفسير الآية رقم (35):

{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَفْظَ: {مَا كَانَ} يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، فَتَارَةً يَدُلُّ ذَلِكَ النَّفْيُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} الْآيَةَ [9/ 120]، وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّعْجِيزِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} الْآيَةَ [27/ 59- 60].
وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، وَقَدْ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَكُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، فَقَوْلُهُ: مَا كَانَ لِلَّهِ بِمَعْنَى: مَا يَصِحُّ وَلَا يَتَأَتَّى وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [19/ 92] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ الْبَالِغُ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ زَعَمُوا الْمُحَالَ فِي قَوْلِهِمْ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ وَمَا نَزَّهَ عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ هُنَا مِنَ الْوَلَدِ الْمَزْعُومِ كَذِبًا- كَعِيسَى- نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} الْآيَةَ [4/ 171]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [19/ 88- 91] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [19/ 35] أَيْ: أَرَادَ قَضَاءَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [16/ 40]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [36/ 82]، وَحَذْفُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الْآيَةَ [5/ 6] أَيْ: إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [16/ 98]، أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ زِيدَتْ فِيهِ لَفْظَةُ مِنْ قَبْلَ الْمَفْعُولِ بِهِ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إِذَا زِيدَتْ قَبْلَهَا لَفْظَةُ مِنْ لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ كَانَتْ نَصًّا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ، وَتَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا لِلتَّوْكِيدِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: قَبْلَ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} [28/ 46]، وَقَبْلَ الْمَفْعُولِ، كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ} الْآيَةَ [21/ 25]، وَقَبْلَ الْمُبْتَدَأِ كَقَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.

.تفسير الآية رقم (37):

{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْأَحْزَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ فِرَقُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ ابْنُ زِنًى، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ اللَّهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ بِالْوَيْلِ لَهُمْ مِنْ شُهُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ مَنْ كَفَرَ بِالتَّفْرِيطِ فِي عِيسَى كَالَّذِي قَالَ إِنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَمَنْ كَفَرَ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ كَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ اللَّهُ أَوِ ابْنُهُ، وَقَوْلُهُ: {وَيْلٌ} كَلِمَةُ عَذَابٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ لَا فِعْلَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ كَوْنُهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَشْهَدَ فِي الْآيَةِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ شُهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمِ- أَيْ حُضُورِهِ- لِمَا سَيُلَاقُونَهُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَشْهَدَ فِي الْآيَةِ اسْمُ مَكَانٍ، أَيْ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي يَشْهَدُونَ فِيهِ تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْعَذَابَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [43/ 63- 64]، وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّهُ يُؤَخِّرُ عَذَابَهُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لِذَلِكَ- أَشَارَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [14/ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [11/ 104]، وَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [29/ 53].
وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ الظَّالِمَ إِلَى وَقْتِ عَذَابِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُهْمِلُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [11/ 102]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [22/ 48].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [19/ 37]، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {مِنْ بَيْنِهِمْ} أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ بَلْ كَانُوا هُمُ الْمُخْتَلِفِينَ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

.تفسير الآية رقم (38):

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قَوْلُهُ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ صِيغَتَا تَعَجُّبٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَتْهُمْ بِهَا الرُّسُلُ سَمْعًا وَإِبْصَارًا عَجِيبَيْنِ، وَأَنَّهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي ضَلَالٍ وَغَفْلَةٍ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يُبْصِرُونَهُ، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سَمْعِهِمْ وَإِبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [32/ 12]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [50/ 22]، وَكَقَوْلِهِ فِي غَفْلَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَعَدَمِ إِبْصَارِهِمْ وَسَمْعِهِمْ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [21/ 1]، وَقَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [30/ 7]، وَقَوْلِهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [2/ 18]، وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} الْآيَةَ [11/ 24]، وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ: الْكُفَّارُ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ صِيغَةَ التَّعَجُّبِ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَزْنِ أَفْعِلْ بِهِ فَهِيَ فِعْلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ جَاءَ عَلَى صُورَةِ الْأَمْرِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ لِإِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الصِّيغَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ دُخُولُ نُونِ التَّوْكِيدِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمُسْتَبْدِلٍ مِنْ بَعْدِ غَضْيَا صُرَيْمَةً ** فَأَحْرِ بِهِ لِطُولِ فَقْرٍ وَأَحْرِيَا

لِأَنَّ الْأَلِفَ فِي قَوْلِهِ: وَأَحْرِيَا مُبْدَلَةٌ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَأَبْدِلْنَهَا بَعْدَ فَتْحٍ أَلِفًا ** وَقْفَا كَمَا تَقُولُ فِي قِفَنْ قِفَا

وَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ صِيغَةَ التَّعَجُّبِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ: مَا أَفْعَلَهُ فِعْلٌ مَاضٍ، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا اسْمٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهَا فِي قَوْلِ الْعَرَجِيِّ:
يَا مَا أُمَيْلِحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ** مِنْ هَؤُلَيَّاءِ بَيْنَ الضَّالِ وَالسَّمُرِ

قَالُوا: وَالتَّصْغِيرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَسْمَاءِ، وَأَجَابَ مَنْ خَالَفَهُمْ بِأَنَّ تَصْغِيرَهَا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ شَاذٌّ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.

.تفسير الآية رقم (39):

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} الْحَسْرَةُ: أَشَدُّ النَّدَمِ وَالتَّلَفِ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي فَاتَ وَلَا يُمْكِنُ تَدَارَكُهُ، وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَهْدِيدٍ، أَيْ: أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ لَهُ: يَوْمُ الْحَسْرَةِ؛ لِشِدَّةِ نَدَمِ الْكُفَّارِ فِيهِ عَلَى التَّفْرِيطِ، وَقَدْ يَنْدَمُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} الْآيَةَ [40/ 18]، وَقَوْلِهِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [34/ 46].
وَأَشَارَ إِلَى مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْحَسْرَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} الْآيَةَ [39/ 56]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} الْآيَةَ [6/ 31]، وَقَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [2/ 167]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، أَيْ: فِي غَفْلَةِ الدُّنْيَا مُعْرِضُونَ عَنِ الْآخِرَةِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ حَالِيَّةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَنْذِرْهُمْ أَيْ: أَنْذِرْهُمْ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَامِلَ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ قَوْلُهُ قَبْلَ هَذَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُنَا إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ: ذُبِحَ الْمَوْتُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [19/ 39]، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ» انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَبْحَ الْمَوْتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ: ذُبِحَ الْمَوْتُ، وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ أُخَرَ غَيْرُ هَذَا تَرَكْنَاهَا لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا: أَنَّهُ يُمِيتُ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ السَّاكِنِينَ بِالْأَرْضِ، وَيَبْقَى هُوَ جَلَّ وَعَلَا لِأَنَّهُ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [55/ 26- 27]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [15/ 23]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَتْلُو عَلَى النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ نَبَأَهُ مَعَ قَوْمِهِ وَدَعْوَتَهُ لَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ هُنَا مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} الْآيَةَ [19/ 42]، أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [26/ 69- 70].
فَقَوْلُهُ هُنَا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، وَزَادَ فِي الشُّعَرَاءِ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ لِأَبِيهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ قَالَهُ أَيْضًا لِسَائِرِ قَوْمِهِ، وَكَرَّرَ تَعَالَى الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِهَذَا النَّهْيِ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [6/ 74]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [26/ 70- 77]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [21/ 51- 56]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [43/ 26- 27]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [37/ 83- 87]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} الْآيَةَ [60/ 40]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ، الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ إِذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} الْآيَةَ [19/ 16]، وَقَدْ قَدَّمَنَا هُنَاكَ إِنْكَارَ بَعْضِهِمْ لِهَذَا الْإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [19/ 41]، مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ عَلَى الْإِعْرَابِ الْمَذْكُورِ، وَالصِّدِّيقُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الصِّدْقِ، لِشِدَّةِ صِدْقِ إِبْرَاهِيمَ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ، كَمَا شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [53/ 37]، وَقَوْلِهِ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [2/ 124].
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: رِضَاهُ بِأَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ، وَشُرُوعُهُ بِالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ طَاعَةً لِرَبِّهِ، مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ فِلْذَةٌ مِنَ الْكَبِدِ.
لَكِنَّمَا أَوْلَادُنَا بَيْنَنَا ** أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ

قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} الْآيَةَ [37/ 103- 105].
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ: صَبْرُهُ عَلَى الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [21/ 68]، وَقَالَ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} الْآيَةَ [29/ 24].
وَذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي قِصَّتِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَمَوْهُ إِلَى النَّارِ لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَأَمَّا إِلَى اللَّهِ فَنَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تَسْأَلُهُ؟ فَقَالَ: عِلْمُهُ بِحَالِي كَافٍ عَنْ سُؤَالِي.
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: صَبْرُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ فِرَارًا بِدِينِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [29/ 26]، وَقَدْ هَاجَرَ مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ إِلَى دِمَشْقَ: وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَبَيَانِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَسَرَهَا وَجَعَلَهَا جُذَاذًا وَتَرَكَ الْكَبِيرَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَلَمَّا سَأَلُوهُ هَلْ هُوَ الَّذِي كَسَرَهَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ كَبِيرُ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَهُمْ بِسُؤَالِ الْأَصْنَامِ إِنْ كَانَتْ تَنْطِقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [21/ 57- 67]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [37/ 92]، فَقَوْلُهُ: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، أَيْ: مَالَ إِلَى الْأَصْنَامِ يَضْرِبُهَا ضَرْبًا بِيَمِينِهِ حَتَّى جَعَلَهَا جُذَاذًا، أَيْ: قِطَعًا مُتَكَسِّرَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: جَذَّهُ: إِذَا قَطَعَهُ وَكَسَرَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا، أَيْ: كَثِيرُ الصِّدْقِ، يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ الْكَذِبَاتِ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ كُلَّهَا فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الصِّدْقِ لَا مِنَ الْكَذِبِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ، التَّاءُ فِيهِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَالْأَصْلُ: يَا أَبِي كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَفِي النِّدَا أَبَتِ أُمَّتِ عَرِّضْ ** وَاكْسِرْ أَوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَاءِ التَّا عِوَضْ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِمَ تَعْبُدُ أَصْلُهُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ اللَّامُ فَحُذِفَ أَلِفُهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ ** أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ لَا تَجُوزُ بِالْقِيَاسِ، وَلِذَا يُوقَفُ عَلَى لِمَ بِسُكُونِ الْمِيمِ لَا بِهَاءِ السَّكْتِ كَمَا فِي الْبَيْتِ، وَمَعْنَى عِبَادَتِهِ لِلشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ طَاعَتُهُ لِلشَّيْطَانِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَذَلِكَ الشِّرْكُ شِرْكُ طَاعَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [36/ 60- 61]، كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا الْمَبْحَثُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَغَيْرِهَا.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُعَذَّبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ، لِقَوْلِهِ هُنَا: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [19/ 45]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} الْآيَةَ [4/ 76]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} الْآيَةَ [3/ 175]، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ [7/ 30]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ فَيَتَّبِعُهُ فِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَلَا وَلِيَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [16/ 63]، وَمَنْ كَانَ لَا وَلِيَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ يَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [19/ 43]،
يَعْنِي مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ وَمَا أَلْهَمَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [21/ 51]، وَمُحَاجَّةُ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ كَمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا أَثْنَى اللَّهُ بِهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا حُجَّةُ اللَّهِ آتَاهَا نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} الْآيَةَ [6/ 83]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي} الْآيَةَ [6/ 80]، وَكَوْنُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَارِدَةً فِي مُحَاجَّتِهِ لَهُمُ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُحَاجَّةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي غَيْرِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.